الحيس أكله من التمر والسمن والدقيق والإقط – وهي البثيثة – وكان حاضراً في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، وكان يحبه ﷺ، بل وليمته صلى الله عليه وسلم على صفية كانت حيس، ووليمته على زينب أيضا كانت حيس. وقد استوقفني حديث عائشة رضي الله عنها، وهو حديث يمر علينا كثيرا ويتكرر في باب الصيام، وفي الحديث تقول عائشة رضي الله عنها:
قالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ يَومٍ: يا عَائِشَةُ، هلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟
قالَتْ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما عِنْدَنَا شيءٌ،
قالَ: فإنِّي صَائِمٌ،
قالَتْ: فَخَرَجَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَأُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ – أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ –
قالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أُهْدِيَتْ لَنَا هَدِيَّةٌ – أَوْ جَاءَنَا زَوْرٌ – وَقَدْ خَبَأْتُ لكَ شيئًا،
قالَ: ما هُوَ؟
قُلتُ: حَيْسٌ،
قالَ: هَاتِيهِ،
فَجِئْتُ به فأكَلَ، ثُمَّ قالَ: قدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا (صحيح مسلم ١١٥٤)،
وفي هذا الحديث تأملات عجيبة جدا:
* فمنها جمالية المنطق وحلاوة الرعاية والاهتمام وبث المشاعر، فلا تستغرب من محبة النبي ﷺ لعائشة وتعلقه بها بهذه الصورة لأن جمال النطق وجمال الكلام وجمال التعابير له أثر كبير جدا في المودة والرحمة بين الناس، وكان يحب ﷺ أيضا خديجة رضي الله عنها لنفس السبب.
فإذا راجعت تاريخهما تجد أن خديجة وعائشة كانتا تمتلكان من المنطق والكلام والتأثير العجيب. فأنا أتساءل كم عدد من كان في البيت أساساً لكي تقول له خبأت لك؟ وما في البيت إلا هو وهي فقط! فكأن البيت مليء بالناس وهي خبأت له! فانظر إلى أثر هذا المنطق الجميل عندما تستخدمه المرأة مع زوجها، فالأنثى جميلة وجمالها لسانها.
وكأنها رضي الله عنها تقلد النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه، فعن المسور بن مخرمة – رضي الله عنه – قال: قَدِمَتْ علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أقْبِيَةٌ، فَقالَ لي أبِي مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بنَا إلَيْهِ، عَسَى أنْ يُعْطِيَنَا منها شيئًا، فَقَامَ أبِي علَى البَابِ [وكانَ في خُلُقِهِ شِدَّةٌ]، فَتَكَلَّمَ، فَعَرَفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَوْتَهُ، فَخَرَجَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعهُ قَبَاءٌ وهو يُرِيهِ مَحَاسِنَهُ، وهو يقولُ: [يا أَبَا المِسْوَرِ] خَبَأْتُ هذا لكَ، [يا أَبَا المِسْوَرِ] خَبَأْتُ هذا لَكَ. (صحيح البخاري ٢٦٥٧ و[٣١٢٧)].
فجمالية اللسان والطلب والمنطق مسألة مهمة جدا، فكم مرة يا رجل خبأت لامرأتك شيء؟! كم؟! وكم مرة يا امرأة خبأت لزوجك شيء من هذه الأمور؟!* وأيضا فيه حرص المرأة على خدمة زوجها والاهتمام به بما يحبه من الأطعمة والأشربة وغير ذلك.
* وأيضا فيه صبر الزوجة وتحمل قلة ذات يد زوجها وفقره كما ورد في (صحيح البخاري ٥٠٨٢) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ نِساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ صالِحُ نِساءِ قُرَيْشٍ» وفسر ذلك بقوله ﷺ: «أحْناهُ علَى ولَدٍ في صِغَرِهِ، وأَرْعاهُ علَى زَوْجٍ في ذاتِ يَدِهِ» فينبغي للمرأة أن تكون مراعية لهذا الأمر.
* وأيضا فيه ذكاء وفطنة عائشة رضي الله عنها، فعندما لم يكن هناك طعام سكتت وما كلمته قط حتى سأل بنفسه ﷺ حتى لا تزعجه وتزعج سمعه وقلبه وبطنه ورأسه بعدم وجود الطعام وتكركبه، لكن لما جاء لها الطعام قالت عندنا طعام وقد خبأت لك وهي التي بادرت حتى تريح نفسه.
* وأيضا فيه مراعاة لنفسية الزوج، فلم تشتكي له ولم تخبره حين لم يكن في البيت طعام، فلم تقل له: “ما في البيت طعام وما فيه كذا وكذا”، وقد كان هذا عامة فعل الصحابيات رضي الله عنهن، ولكن بعض الفضلات هداهن الله عز وجل الخيرات تزعج الرجل في أذنه بالطلبات فتقول ما يوجد عندنا كذا وكذا، وقد تكون الثلاجة مليانة بفضل الله عز وجل، أو تستطيع أن تتصرف هي، ومع ذلك تهمل هذا الأسلوب الراقي، فهذه من المشاعر التي ينبغي أن يتخلق بها زوجاتنا ويتخلق بها النساء اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم واقتداءً بعائشة رضي الله عنها فهكذا تنمى وترعى البيوت.
* وأيضا فيه أنه إذا وجد الحب والمودة والانسجام بين الزوجين، كان هو الغذاء والنماء والدواء في عش الحياة الزوجية ولو لم يكن هناك طعام، فالمشاعر لا تُعَوَّضُ بينما الأكل يَتَعَوَّض، المشاعر والعاطفة والمحبة والالتحام بين الزوجين مسألة مهمة جداً سواء كانت من جهة الرجال أو النساء، وينبغي أن نعتني عناية تامة في بث المشاعر والاهتمام بها.
* وأيضا فيه حسن خلق الزوج ورعايته لأهله في قلة يده، فالجوع مما يغضب الرجال في الغالب لكن النبي صلى الله عليه وسلم ما غضب، وإنما قال: «إني صائم» وبطريقة إيمانية فريدة استثمر الموقف صلى الله عليه وسلم.
* وأيضا فيه احترام الزوجة في مهام بيتها فهي أدرى بالمطبخ وما فيه وما يحتاج إليه، فينبغي على الرجل ألا ينازع المرأة في مملكتها وفي ترتيبها وتنسيقها إذا كانت تحسن التصرف.
* وأيضا فيه التحوير والإيجابية في كل الظروف، واستثمار المواقف بما ينفع ويرفع ويجمع وليس بما يقطع ويضرب ويخلع، لا! بل حول النبي ﷺ الموقف بطريقة إيجابية وقال: «إني صائم» وفي اليوم الثاني كان صائما لكن عندما رأى أن زوجته قالت: «خبأت لك»، وجعلت لك نصيبا، وكأنها حرمت نفسها منه لتعطيه فقال: « هاتيه » آكُلُه، حتى يُفرح قلبها.
وأيضا فيه أن العبادات ملاذ الخائفين وقوت الجائعين، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن الصوم: «إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني» (صحيح البخاري ١٩٦٦)، فدائما العبادات والطاعات مخرج من الخلافات والشقاق والنزاع، فينبغي أن نعتني بحياة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته ونستثمرها في تطبيقاتنا وتوجيهنا وكفانا استيراداً من زبالة الغرب والشرق والعرب والعجم وغيرهم، ونحن عندنا فيض من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما هو في كتاب الله عز وجل مما هو نافع لنا وينعكس على حياتنا بشكل عملي.
وللمشاعر أهمية بالغة يا أخوان فقد كان النبي ﷺ يراعي مشاعر زوجاته، وكن رضي الله عنهن يراعونها، ومن يراجع سيرة عائشة وسيرة خديجة وسيرة زوجات النبي ﷺ أم سلمة وصفية رضي الله عنهن يرى العجب سواء من النبي عليه الصلاة والسلام أو منهن، لأن السيد الذي يسد الجوع بأكمله ويزيل الألم هو الكلمة الطيبة، قال سبحانه وتعالـى: ﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ (البقرة ٢٦٣) فدائما الكلام الحلو والمنطق الجميل بين الزوجين له أثر كبير جداً في استقامة الحياة، فينبغي أن نعتني بذلك وأن نحرص عليه وعلى وجود هذا الود.
فهذه قصة عائشة والحيس أسأل الله أن يبارك فيها، وهذه من الأكلات النبوية التي ينبغي أن يكون مطبخ المرأة حاويا لها، فجزى الله خيرا كل من يحرص على السعادة الزوجية.
No Comments