الأربعاء ، الواحد والعشرون من أيار / مايو
هذا اليوم ليس كبقية الأيام…
هو يومٌ سأتذكره كلما شعرت أن الدنيا ضاقت، وكلما نسيت أن الأمل قد يولد من رماد الغياب.
دخلت المدرسة كعادتي، أحمل حقيبتي وقهوتي وبعضاً من طاقتي الموزعة بين مهامي الكثيرة، ولم أكن أعلم أن قلبي سيتسع لحكاية لن أنساها ما حييت.
في مكتبي كعادتي، أقلب الأوراق وأراجع الخطط، حين جاءتني طرقت الباب أمٌ للمرة الأولى، تتحدث بلغة ليست لغتي، ولكنها تتحدث بلغة الأمومة التي لا تحتاج إلى ترجمة ، نظراتها قلقة، خطواتها مترددة، ولسانها ينطق بلغة ليست لغتنا.
قالت بلطف: “?May I speak to you”
أشرت لها بالدخول، وجلست أمامي… امرأة ترتجف ملامحها، لكنها تحاول التماسك باسم “أم”.
قالت: “أنا والدة الطفلة التي تدرس في الصف الثاني، لم أرها منذ سنتين وثلاثة أشهر…”
كانت نظراتها ترتجف، ودموعها تقف على عتبة الانهيار، تتوسل لي بلطف أن ترى طفلتها.
ابتلعت الكلمات، وابتلعت معها دمعة كادت أن تفضحها، لكنّ عينيها سبقتاها، فسال الحنين منهما بلا استئذان.تلك الطفلة… أعرفها جيداً. بل كيف لي ألا أعرفها؟ هي من أكثر الطالبات رقّة وشعوراً، أكثر من تبحث عني في الإدارة، تقفز لحضني كلما رأتني وتهمس: “اشتقت لك”…
وأنا… كم أشتاق أيضاً.
بدأت أطمئنها. سألتها: “متى وصلتِ الإمارات؟”
قالت: “من يومين… نزلت في مدينة أخرى، واليوم أتيت لأراها.”
حدّثتها عن ابنتها، عن مستواها الدراسي، وعن قلبها الذي يفتقد حضنها، عن حنينها المخبأ في رسوماتها وهمساتها، وفي كل مرة كانت تهمس لي بغير وعي: “أنا أحتاج أمي.”
الأم بدأت تبكي.
قالت: “منذ شهرين فقط بدأ والدها يسمح لي بالتواصل معها… وكانت ابنتي تخبرني عنك، وتقول إنك شجعتها أن تبوح له بمشاعرها.”
استأذنتها قليلاً، ورفعت الهاتف لأتواصل مع والد الطفلة،
ولم يطل انتظاري، إذ حضر الأب سريعًا، ودخل عليّ بنبرةٍ حاسمة وقال:
“ابنتي لا تريد رؤية أمها.”
توقفتُ عن التنفّس لحظة…
كيف لطفلةٍ لم تُكمل عامها السابع، أن ترفض رؤية وجه أمها؟
كيف لطفلة تأتي إلى مكتبي حاملةً رسوماتها، تقول لي: “أتمنى لو أن أمي تراها”، أن تقول لأبيها إنها لا تريد لقاءها؟
شيءٌ في قلبي انكسر… لكنني تماسكت.
قلت له بهدوء:
“دعنا نسألها… أمامك، وأعدك إن رفضت، فلن نُجبرها. لكن لا نحكم عليها قبل أن نمنحها حق القرار.”
استدعيت صغيرتي، وكانت في المكتب المجاور، دخلت مسرعة، وعندما رأت والدها، ركضت نحوه وضحكت:
“هل اشتقت إليّ بهذه السرعة؟”
فضمّها إلى صدره، وقال: “نعم، اشتقت إليك كثيرًا.”
في تلك اللحظة، شعرت أن المشاعر بدأت ترفرف حولنا، أن شيئًا من الطفولة البريئة يتحدى هذا الواقع القاسي.
اقتربتْ مني، كالعادة، واحتضنتني بقوة.
همستُ لها بلغة أقرب للخيال:
“لو كانت لدي عصا سحرية، وحققت أمنية واحدة، وجعلت أمك تظهر في المدرسة… هل ترغبين برؤيتها؟”
تلعثمت…
سكتت لثوانٍ… ثم قالت:
“هل هذا حقيقي؟ أمي هنا؟”
قلت لها: “تخيّلي فقط… لو كانت هنا، هل تودين رؤيتها؟”
نظرت إلى والدها، كأنها تنتظر إذنًا للبوح.
ابتسم والدها وقال:
“لا بأس يا صغيرتي… إذا أردتِ رؤيتها، فلا مانع لدي.”
هنا… انهارت دموعها، انهمرت أمام أبيها كنبعٍ انفجر بعد طول احتباس.
قالت، بصوتٍ مرتجف وصدقٍ نادر:
“نعم… نعم، أريد أن أراها.”
أخذتُ بيدها الصغيرة، وذهبنا إلى دورة المياه، غسلت وجهها، وضبطنا شعرها، وغسلتُ يديها كأننا نغسل بقايا الغياب.
قالت لي وهي تكاد تقفز من الفرح:
“مس ليلى، سأراها؟ أمي حقًا هنا؟”
قلت لها بابتسامة:
“هذه مفاجأة، يا أميرتي.”
خطواتنا إلى المكتب كانت محسوبة، كل ثانية كانت تزن دهورًا.
فتحتُ الباب، وكانت الأم تنتظر…
وها هي الصغيرة، بعد 820 يومًا وليلة من الغياب، ترتمي في حضن أمها.
حضن واحد فقط…
كفيل أن يُرمم قلبًا صغيرًا، وأن يعيد النور لعينين غرقى في الانتظار.
ذلك اللقاء… لم يكن عاديًا.
كان لقاء أرواحٍ تمزّقت، وعادت لتلتئم بلحظة واحدة.
كان دموعًا، وارتجافًا، واحتضانًا يعلو على اللغة والحسابات والمنع…
كان الحقيقة الوحيدة التي لم تُقل بالكلمات، بل عانقت القلوب مباشرة
نظرتُ إليها، وقلبي يرتجف.
هذا اليوم، هو ثمرة شهرين من المحاولات، من الرسائل، من الكلمات التي خرجت بحذر نحو والدٍ متألم، وأمٍ محطّمة.
اليوم، احتضنت الأم ابنتها… بعد 820 ليلة من الانتظار.
كان اللقاء مشحونًا… اشتياق صاخب، بكاء مكتوم، أيدٍ ترتجف، وقلوب تعانق قبل الأجساد.
أشهد أن الحب حين يأتي متأخراً، لا يقل دفئاً… بل قد يكون أصدق.
بعد اللقاء، طلبت من الوالدين أن نجلس معًا.
تحوّل مكتبي من التوجيه الطلابي إلى التوجيه الأسري.
كأن الحياة اختارتني أن أكون شاهدة على محاولة مصالحة بين قلبين انفصلا، لكن لم ينطفئا.
تحدثنا طويلاً، ساعة كاملة من تبادل الرأي، بلا اتهام، بلا صراخ، بلا قسوة.
أخبرتهما أن الطفلة لا تحتاج حكم قاضٍ، بل حضن أبوين يحترمان حاجتها للحب والاحتواء.
اتفقت معهما على خطوات للتواصل، لتنظيم زيارات، لإعطاء مساحة للطفلة أن ترى أمها دون قيد أو توتر.
وافق الأب… وشكرني، بينما كانت الأم تبحث عن فندق قريب لتقضي أربع ليالٍ مع ابنتها.
أربع ليالٍ فقط… بعد 820 ليلة غياب.
في نهاية اليوم، عدت إلى منزلي، أُحدّث نفسي…
ما أثقل هذه المهنة، وما أعمقها.
هي ليست وظيفة، بل رسالة.
هي أن تكوني شاهدة على الألم، وحاضنة للفرح، وجسرًا للقاءٍ بعد فُرقة.
وها أنا اليوم، في زاوية هادئة، أكتب لأخلّد هذه اللحظة:
أربعة أيام من الحضور… بعد 820 يوم غياب
ليلى محمد عجال
بكالوريوس الآداب في العلوم الاسرية – تخصص الارشاد المجتمعي – دبلوم الارشاد الأسري
One Comments
قلم سيال وابداع في التعبير …. اتمنى مثل هذه المقالات أن تستمر خاصة وأن مدادها الحياة الواقعية.
{ لقاء أرواحٍ تمزّقت} وصف دقيق لآثار الخلافات الأسرية
{ما أثقل هذه المهنة، وما أعمقها. هي ليست وظيفة، بل رسالة.}
نعم … المهن الإنسانية يقوم بها الموظف بمهام الأنبياء وعلى قدر همه واخلاصه تكون النتائج في الدنيا والاخرة