إنما الأعمال بالخواتيم، وخير الأمور مسك ختامها، من خلال تلاوة القرآنية للمصحف في شهر رمضان المبارك لعام 1444، لاح لي ما أبهر قلبي وكاد يطير من كنوز ما حوت نهاية الآيات المبينة لأحكام الطلاق بسور البقرة والنساء والأحزاب والطلاق، من المعاني العظيمة، والمباني الجليلة، فتعجبت مما رأيت في آيات الطلاق من المفارقة بين نعمة وتيسير ورحمة تشريع الخالق، وبين نقمة وتعسير وزحمة تطبيق الخلق لها، ومن تجاسد وتطابق وتعانق العقائد والتشريع والآداب معًا، في خواتيم آي الطلاق، كل ذلك ليكون الطلاق ناجحًا ومنحةً لا فشلاً ومحنةً، ولسان حال مسك الختام بختام آي الطلاق يا راحلًا عن العلاقة الزوجية استكثر مليح النصائح وأترك قبيح الفضائح
1- فمما حوته خواتيم آيات الطلاق من العقائد الإلهية صفات الله الحسنى واسمائه العلى كالسميع والعليم والعزيز والحكيم والبصير والواسع والرازق، ودلالها كلها على عظمة الله ومراقبته وعلمه واطلاعه على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فلا يعلم حقيقة الخلافات الزوجية المفضية للشقاق والطلاق، ولا يعرف حقيقة كنهها بصورة جلية سوى الله ثم الزوجين، لذلك كانت هذه رسالات من الله لهما أنه عليم سميع بصير؛ ليحذر ويتق الله كل واحد منهما، وليعلما أن مفارقتهم تسريحًا بالإحسان كما شرع الله ويريده منهما هو لكمال عزته الغالبة فهو العزيز على كل شيء، وجمال حكمته الباهرة فهو الحكيم لكل شيء؛ فعليهما الالتزام بشرعه لعلمه وعزته وحكمته؛ فذلك أزكى لهما وأطهر في الدنيا وبه النجاة يوم الآخر، وأن الأقارب أو المحرضين بعضهم ببعض لا يغنون ولا ينفعونهم بشيء عن الله. ﴿…….. فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٢٧ …….. وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٢٢٨﴾ ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ٢٣١﴾ البقرة، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ ٢٣٧﴾ البقرة ﴿…….. وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٤٠﴾ البقرة، ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغنِ ٱللَّهُ كُلّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيما ١٣٠﴾ النساء، ﴿……..فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحا جَمِيلا ٤٩﴾ الأحزاب
2- ومما اوعبته خواتيم آي الطلاق معرفة وإدراك أن الطلاق من أحكام الله وشرعه لمنفعة الشريكين وترقيتهما لمعالي الرتب من السمو البشري والتيسير عليهما عند تعثر تحقيق العبودية التي من لأجله شرع الزواج من المودة والرحمة والشكر فوجب الانتقال لعبودية الطلاق بالصبر والتقوى والعفو، ﴿ …… وَٱذكُرُواْ نِعمَتَ ٱللَّهِ عَلَيكُم وَمَآ أَنزَلَ عَلَيكُم مِّنَ ٱلكِتَٰبِ وَٱلحِكمَةِ يَعِظُكُم بِهِۦۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٞ ٢٣١ ﴾ البقرة، ﴿ ذَٰلِكَ أَمرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّر عَنهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعظِم لَهُۥٓ أَجرًا ٥ ﴾ الطلاق.
3- ومما نوهته خواتيم الآيات التذكير عن عاقبة مجاوزة الحدود الربّانية وتحذير من الظلم والتعدي على الآخر والوعظ بذلك وأن التمادي بذلك عاقبته خسرا، ﴿…….. تِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعتَدُوهَاۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٢٩﴾ البقرة، ﴿…….. وَتِلكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَد ظَلَمَ نَفسَهُۥۚ لَا تَدرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَٰلِكَ أَمرٗا ١﴾ الطلاق، ﴿…….. ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُم يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِۗ ذَٰلِكُم أَزكَىٰ لَكُم وَأَطهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ ٢٣٢﴾ البقرة، وإن من أخطر ما ينبغي على الأزواج في الطلاق الحذر منه ما يكون من مجاوزة الحدود في الحقوق المالية، مما نهاه الله وحذره فقال: ﴿وَلَا تَأكُلُوٓاْ أَموَٰلَكُم بَينَكُم بِٱلبَٰطِلِ وَتُدلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلحُكَّامِ لِتَأكُلُواْ فَرِيقا مِّن أَموَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثمِ وَأَنتُم تَعلَمُونَ ١٨٨﴾ البقرة.
4- ومن ذلك أيضًا مركزية الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعل الآخرة نصب عين المطلق والمطلقة وغياب هذه المسألة أو تغيبها أو إهمالها بالتذكير ذات عواقب مضرة بالدنيا والآخرة ﴿…….. ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُم يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِۗ ذَٰلِكُم أَزكَىٰ لَكُم وَأَطهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ٢٣٢ ﴾، ﴿وَٱلمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَٰثَةَ قُرُوٓءٖۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكتُمنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيٓ أَرحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِ ﴾ البقرة.
5- ومن ذلك ركنية الأخلاق الحسنة والآداب الجميلة من العفو والفضل والتقوى وجلالة ثمرات ذلك وأن المتحلي بها أكثر حظوة لمنن الله وآماله وتفريجه له وعليه والوعود الحسنة بعد الطلاق لمن امتثل بالتقوى من الزكاة والطهر والتيسير بعد أي عسر وسعة الرزق والمخرج لكل داء نفسي وإحداث ما يتوقع ولا يحتسبه المرء، ومن الرعاية الآداب المرعية ﴿…….. وَأَن تَعفُوٓاْ أَقرَبُ لِلتَّقوَىٰۚ وَلَا تَنسَوُاْ ٱلفَضلَ بَينَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ ٢٣٧﴾ البقرة، ﴿وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغنِ ٱللَّهُ كُلّٗا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَٰسِعًا حَكِيمٗا ١٣٠﴾ النساء، ﴿…….. لَا تَدرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحدِثُ بَعدَ ذَٰلِكَ أَمرٗا ١ …….. ذَٰلِكُم يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مَخرَجٗا ٢ وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لَا يَحتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمرِهِۦۚ قَد جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيءٖ قَدرٗا ٣ …….. وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجعَل لَّهُۥ مِن أَمرِهِۦ يُسرٗا٤ ذَٰلِكَ أَمرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّر عَنهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعظِم لَهُۥٓ أَجرًا ٥﴾، ﴿…….. لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجعَلُ ٱللَّهُ بَعدَ عُسرٖ يُسرٗا ٧﴾ الطلاق، فهذه هي ثمرات الامتثال بالطلاق الشرعي حكمًا وتأدبًا جزاءً وفاقًا، وأن عاقبة هذا الامتثال طريق للعفو وسلامة الصدر والتقوى مراقبة الله تعالى والجزاء من جنس العمل فمن عفا؛ عفا الله عنه ومن أحسن؛ أحسن الله له وإليه وعليه، ومن حقق التقوى به نال مما وعده الله وكان من أهل الفضل والأجر وجليل الأمر.
6- ومن ذلك تنمية العقل وترقية الفكر في المجتمع يتحقق من خلال بناء الإيمان والعقائد من معرفة الله واليوم الآخر والعمل بكتاب الله وتطبيق ما أنزله الله لنا مما هو حياة لنا ﴿وَلِلمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ بِٱلمَعرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلمُتَّقِينَ ٢٤١ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُم ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ ٢٤٢ ﴾ البقرة، فبذكر والعمل بنعمة شرع الله ننال مرقاة العقل ونبلغ مدارج الحكمة ومع مراعاة للآداب من التقوى والعفو والتيسير والتسريح الجميل ودوام تذكر المحاسن واستحضار واستشعار الفضائل وعدم نسيانها، وتقرير ذلك في النفوس وتعزيز ذلك بالقلوب لهو الفوز المبين لاستقرار الحياة الزوجية والأسرية، حتى بعد الطلاق، فمن خلال ذلك يتحقق العقل ونتخلق بكل معقول، وديانة النسوة وأخلاقهنّ تظهر بعد الطلاق، وعقول الرجال وشهامتهم تبزر واضحة عقب الطلاق، ومجتمع تزاوج فيه العقل والدين والأخلاق والشهامة؛ فلهم السيادة والريادة
7- أهمية الانطلاقات القرآنية في إصلاح الأسر والمجتمع؛ فالمسطور المنثور بالساحة لنهضة الأسر والسمو بالعلاقات الزوجية أو المعالجة للمشكلات والخلافات أو الأنظمة الفاصلة بينهما ولو مستمدة من الشرع، الخالية من ربط بالإيمان وتزكية السلوكيات وبيان العواقب ومآلات الأمور لا تُصْلِح المجتمع وحدها؛ بقدر النصوص القرآنية والمواعظ الإلهية وسياقاتها المتنوعة في التوجيه والنصح والإرشاد، لما لها من القداسة والسطوة على القلوب وسلطة المهابة على النفوس؛ فكم رأينا من أسلم بآية واحدة فقط، وتغيرت حياته كليا بها، وكم رأينا من استقامت حياته وتبدلت بشطر آية، ولو أن المشتغلين في الميادين الاجتماعية أدركوا ذلك لأصلحوا واختصروا على أنفسهم من الجهد والمال والوقت المهدور بلا فائدة كبيرة ترجى مقابل ما يبذلونه.
8- أهمية الوعظ الحسن والحازم وتنويع الأساليب فيه وتلميع طرائق عرضه من طرف الحاكم أو المصلح لشقاق الزوجين فهذا أشد وقْعًا من السياط وأنفع تأثيرًا، ﴿…….. ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُم يُؤمِنُ بِٱللَّهِ وَٱليَومِ ٱلأٓخِرِۗ ذَٰلِكُم أَزكَىٰ لَكُم وَأَطهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ ٢٣٢﴾ البقرة، وقد كان هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار” رواه البخاري ومسلم، وجاء في قصة الزوجين المتلاعنين ” ووعظه، وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وذكرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ” رواه مسلم
9- ليس في الطلاق الشرعي أي عيب أو محرم أو نقيصة للمرأة أو الرجل أو أبنائهما، وتضخيم الأمر فوق حجمه لأجل ذات الطلاق، وجعله مشكلة والمبالغة فيه؛ فعواقبه وخيمة وله آثار سلبية تضر بالمرأة المطلقة وعيالها بلا قصد أو شعور، بل التهويل بأمر الطلاق سبب رئيس لعزوف طوائف من الشباب من الجنسين عن الزواج والنتيجة الحتمية مآلها قلة المواليد وانحصار النسل واندثار المجتمع وفي نفس الوقت الميل الطبيعي للبديل عن الزواج من الزنا والفحشاء والعلاقات المحرمة والخلوات الغرامية ذات التأثيرات السلبية على النفوس واستهلاك المشاعر، فلا وسطية في ذلك إما الزواج والمكاثرة أو الحرام والمجاسرة، وما جعل الله الطلاق إلا علاجًا ومخرجًا وسلامةً للنفوس والأجور، فهو عبادة لها أحكامها وأركانها وشروطها وآدابها وثمراتها وزمانها ومكانها
10- إذا كانت هذه العناية الرّبانية للطلاق والشقاق والفراق ونهايات آيات الطلاق؛ فما ظنّك بالرعاية الرحمّانية للأسرة عند الوفاق على الطاعة والتلاق بالمودة والعناق بالرحمة والسكون المعلاق والسكن العملاق فيا ليت قومي يعلمون وبالشرع ينهلون.
عبد القادر محمد عجال
شوال 1444
One Comments
النقطة 9: )وما جعل الله الطلاق إلا علاجًا ومخرجًا وسلامةً للنفوس والأجور، فهو عبادة لها أحكامها وأركانها وشروطها وآدابها وثمراتها وزمانها ومكانها(
فائدة تكتب بماء الذهب