توفي قبل غروب الشمس يوم الإثنين 15 يناير 2024 الأخ الحبيب وطالب العلم الشرعي الأديب وصاحبي القريب أبو محمد سيد أبوبكر قلاتى، رحمه الله رحمةً واسعةً، وترك ذلك حزنًا بالغًا عليَّ لعظم نفعه وصلة الرحم العلمية بيننا مع تباين البلدان؛ لكن لا رابطة تفوق الأخوة الإيمانية والصلة العلمية الشرعية، ولا نقول إلا ما يرضي الرّب، إنا لله وإنا إليه راجعون.
لا يُعرف قدر الشيء وأثره إلا إذا فُقد، فلا تعرف قدر الماء أو الهواء أو الصحة أو الأمان إلا إذا ذهبوا أو قلّوا، ولا يُعرف قدر طلاب العلم النافعين أو دعاة الخير والرحمة والإلفة العقلاء أو العلماء الربانين المربين المصالحين إلا إذا ماتوا، فغيرهم يتعوض أما هم فلا يتعوضون.
وكان ما كتبته في حالة الواتساب لرقم هاتفي بعد المشاعر المعبرة والتوجيهات المبصرة والعظة الواعظة من موتة “حبي سيد أبو بكر جعله الرحمّن بالفردوس الأعلى“، وكان ممن اطلع على ذلك الأخ الجليل والخِل الجميل مهير القبيسي أبو حميد، فاتصل بي يواسيني ويعزيني ويدعوا للأخ ويشكر على الكلمات والمشاعر والفوائد المدونة في حالة الواتساب؛ وطلب مني مؤكدًا عليّ كتابة مقال في المشاعر وشيء من الأدب في الجنائز، وقال لي: أعرف ما تقوله ورأيك، فلا تقل لي العلماء كتبوا أحكام وآداب الجنائز في الكتب، أقول لك أريد فقط مقال، عسى الله ينفع به، وبك وبنا، ومثل مهير لكمال حقه وجمال أخوته لا يُرد، وما طلبه من أحكام وآداب الجنائز فأحيله أعظم كتاب فريد في نوعه بنظري كتاب (أحكام الجنائز وبدعها) للعالم الرباني العبقري العاقل محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله المتوفى 1420هجري.
ولكن رضوة لمهير من جهة، ومن جهة ما أحبه من بثٍ ونشرٍ للثقافة الأسرية الحميدة من خلال محاسن ديننا الإسلامي، دين الله السلام، ومما ورد من هدي نبّي الرحمة والسلام للعالمين الداعي لجنّة الله دار السلام، حضرني في بالي ما يجمع بين الإحسان للميت في الجنائز وبين العلاقة الزوجية وما يدل على أهمية أدب جليل فيه من مشاعر المحبة وجميل الستر حال غسل الميت، فكيف بحال الحياة الزوجية القائمة أو المفارقة، أولى ثم أولى بالستر، فعن أم المؤمنين عائشة قالت: رجع إلىَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جنازةٍ بالبقيعِ ، وأنا أجدُ صُداعًا في رأسي ، وأقولُ : وارأساه فقال : بل أنا وارأساه ما ضَرَّكِ لو مُتِّ قبلي فغَسَّلْتُكِ ، وكَفَّنْتُكِ ، ثم صَلَّيْتُ عليكِ ودفنتُكِ) أخرجه ابن ماجه (1465)، وقالت أم المؤمنين عائشةُ زوج رسول الله: (لو استَقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ، ما غسَلَهُ إلَّا نساؤُهُ) صحيح أبي داود 3141، وهو حديث حسن
فإن من أعظم ما يجب على مغسل الميت الستر لما يراه من العيوب الخِلْقية أو الشرعية، ولا يجوز لمن لا يتصف بهذا الخلق العظيم أن يتولى تغسيل ميت، وهذا نفسه مما يجب على الزوجين، لذلك كان الشرع يجيز تولى تغسيل أحد الزوجين للآخر حال موته فهو أحق وأولى بستر صاحبه، وإذا وجب ستره حال وفاته وتغسيله فمن باب أولى وجوب ستره حال قيام الحياة الزوجية أو الفراق بينهما بالطلاق كفراق بينهما بالموت ولما كان من انكشاف العورة بينهما، ويجوز اغتسالهما معًا أو تغسيل كل واحد لصاحبه حال الحياة الزوجية كما ورد وصح عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز استمرار ذلك حال موت أحدهما،
وإن الغاسل للميت من أهم أوصافه الرحمة والرفق على الميت، ولما جاز لأحد الزوجين حال الوفاة غسل صاحبه كان من ذلك حضور الرحمة والشفقة والرفق وهذا هو الحكمة من تشريع الزوجة المودة والرحمة كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ٢١﴾ الروم
ومما يجب على الغاسل للميت الشفقة عليه وهذا بين الزوجين أوجب حال الحياة الزوجية قبل أن يغسل أحدهما الآخر في وفاته، وإن العناية بالميت في مرض موته أو حال المرض عامة من أعظم الوفاء والبر والإحسان وهو خُلق بيت النبوة، تقول أم المؤمنين عائشة في عنايته هي وزوجاته لمرض رسول الله: لَمَّا ثَقُلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واشْتَدَّ وجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أزْوَاجَهُ في أنْ يُمَرَّضَ في بَيْتِي، فأذِنَّ له، فَقَالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعْدَ ما دَخَلَ بَيْتَهَا، واشْتَدَّ به وجَعُهُ، هَرِيقُوا عَلَيَّ مِن سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أعْهَدُ إلى النَّاسِ قَالَتْ: فأجْلَسْنَاهُ في مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عليه مِن تِلكَ القِرَبِ، حتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إلَيْنَا: أنْ قدْ فَعَلْتُنَّ قَالَتْ: وخَرَجَ إلى النَّاسِ، فَصَلَّى لهمْ وخَطَبَهُمْ. صحيح البخاري 5714.
وعنها رضي الله عنها قالت: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَنْفُثُ علَى نَفْسِهِ في المَرَضِ الذي مَاتَ فيه بالمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أنْفِثُ عليه بهِنَّ، وأَمْسَحُ بيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا ” صحيح البخاري 5735.
فانظر عناية الزوجة بمرض زوجها، وهذا خلق رسول الله معهنّ سابقًا، فمنه صلى الله عليه وسلم تعلمنّ رضي الله عنهنّ، تقول عائشة في حادثة الإفك: ” فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ بهَا شَهْرًا، والنَّاسُ يُفِيضُونَ مِن قَوْلِ أصْحَابِ الإفْكِ، ويَرِيبُنِي في وجَعِي أنِّي لا أرَى مِنَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اللُّطْفَ الذي كُنْتُ أرَى منه حِينَ أمْرَضُ، إنَّما يَدْخُلُ فيُسَلِّمُ، ثُمَّ يقولُ: كيفَ تِيكُمْ؟” صحيح البخاري 2661، فتفكر عناية رسول الله في زوجاته حال مرضهنّ بلطف وتفقد وتعهد.
ومن الخذلان في التوفيق والحرمان من الأجر والعقوق في العشرة الزوجية ترك الزوج أو الزوجة العناية بالآخر وعيالهم حال مرضهم أو ضعفهم وانشغالهم بما لا ينفع دنياهم أو آخرتهم، فجزاء ذلك هو إهمالهم له وقت حاجته، فإنما الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.
رحمة الله على فقيدنا صاحبي “سيد أبوبكر” وشكر الله ووفق لكل خير خليلي “مهير القبيسي” المتسبب لهذا المقال فلأجل عيونك يا مهير.
No Comments