كلما أرى القمر أتذكر حديثا متعلق بالعلاقة الزوجية في القمر، وهو حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كانَ بعينَي صفيةَ خضرةٌ، فقال لهَا النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ما هذِه الخضرةُ بعينَيكِ؟
فقالتْ: قلتُ لزوجِي، إني رأيتُ فيما يرَى النائمُ قمرًا وقَعَ في حجرِي،
فلطَمَني وقال: أتريدِينَ مَلِكَ يثربَ؟،
قالت: وما كانَ أبغضَ إليَّ مِن رسولِ الله، قتلَ أبِي وزوجِي، فما زالَ يعتذرُ إليَّ،
فقال: يا صفيةُ إنَّ أباكِ ألَّبَ عَلِيَّ العربَ وفعلَ وفعلَ يعتذرُ إِليها،
قالت: حتَّى ذهبَ ذاكَ من نفسِي.
(سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 2793/ (6/695).
وفي هذا الحديث عدة فوائد:
الفائدة الأولى: قوة الملاحظة والفطنة وتفقد وجه الأهل وأجسادهم فيما فيه من الضرر وهذا فيه مما فيه من أثر طيب في نفسية المرأة، وهو دليل على الذكاء العاطفي للزوج لقدرته على الانتباه لتفصيل ودقائق الأمور برقيق الاهتمام ورفق الكلام.
الفائدة الثانية: الغيرة المحمودة، فزوجها وإنْ كان يهوديًا لكن لأنه كان في بيئة عربية كان غيورًا، فالغيرة بالاعتدال يحبها الله وهي أمر فطري، ودليل على المحبة، بل كما قال رسول الله:
“أتعجبون من غيرة سعد، فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش” رواه مسلم.
فعبر زوجها الرؤية على أنه سيتزوجها ملك يثرب، وهو ذاك اليوم رسول الله صلـى الله عليه وسلم؛ فغار ولذلك لطمها، وهذه غيرة العرب كانت موجودة قديما عندهم وعند من احتك ببيئتهم، ومن أعجب الغيرة في باب الغيرة ما صح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“رأيتني دخلت الجنة، ورَأَيْتُ قَصْرًا بفِنائِهِ جارِيَةٌ،
فَقُلتُ: لِمَن هذا؟
فقالَ: لِعُمَرَ، فأرَدْتُ أنْ أدْخُلَهُ فأنْظُرَ إلَيْهِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ
فقالَ عُمَرُ: بأَبِي وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ أعَلَيْكَ أغارُ.” (صحيح البخاري ٣٦٧٩)
فحتى في المنام التمس ﷺ غيرة عمر رضي الله عنه حتى يراعي مشاعر صاحبه وهذا علم للنفوس غير موجود في الكتب ولا في الطب النفسي المعاصر ولا القديم.
الفائدة الثالثة: أن التكرار والاستمرار ولزوم المراودة وحسن المعاودة بالخير مما يخضع البشر عامة وبصفة أشد وأنكى للإناث، فلا ولن تثبت أي أنثى أمام الإلحاح والإفصاح مهما كانت صلابتها، فتأمل وصف صفية لحال رسول الله فتقول: “فما زال يعتذر إليّ“، و(ما زال) من أفعال أخوات كان الدالة على المداومة والاستمرارية غالبًا، و (يعتذر) فعل مضارع وأفعال المضارع دالة على الديمومة والمداومة في الاعتذار، ثم تضيف صفية لوصف حال رسول الله بقوله لها: “يا صفيةُ إنَّ أباكِ ألَّبَ عَلِيَّ العربَ وفعلَ وفعلَ يعتذرُ إِليها” ومع عدم حاجة رسول الله كل ذلك، وليس بواجب عليه، ولا هي زوجته الوحيدة التي يحتاج إلى إرضائها حتى يحرص أن يسترضيها، ومع ذلك يقول هذا فهو الرحمة المهداة للعالمين والقدوة الحسنة للمقتفين، ولأجل النتيجة الطيبة كسب قلب الزوجة يهون ويسهل كل شعاب الصعوبة وكانت العاقبة حميدة فقالت صفية: “حتَّى ذهبَ ذاكَ من نفسِي“، وهذا من جمال أخلاقها وكمال حسن تبعلها.
الفائدة الرابعة: مراعاة الحالة النفسية السلبية عند الأهل والسعي في إزالتها، وقد وقع في نفس صفية رضي الله عنها شيء من الأذية لأن الرسول ﷺ قتل أبيها وزوجها فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إليها كثيرا، مع أن موت أبيها أمر طبيعي فأي قتال يقع بين الناس فإما قاتل أو مقتول، ومع عيشتها مع الذي تسبب في قتل أبيها كان في نفسها شيء، وهذه الأمور النفسية ليست بأيدي الناس ولا اختياراتهم في كثير من الحالات، لكن السعي في إزالتها وعلاجها هو الكمال المنشود والجمال الموجود.
الفائدة الخامسة: الاعتذار الجميل بأن يعتذر الرجل لزوجته ولو لم يكن مخطئ، فإن هذا يصلح، وعناد بعض الرجال وتكبرهم وامتناعهم عن الاعتذار لزوجاتهم لا يصلح، والعاقل من يحرص على إصلاح حاله واستصلاح أهله لكل خير، والولوج برفق وتواضع وتكرار بلا ملل لإزالة سخيمة القلوب وكمائن الضغائن وجروح الروح، وهذا فضل الله ورحمته يؤتيه من يشاء من عباده.
الفائدة السادسة: الحالة النفسية ولو كانت مؤلمة لا تمنع التعايش والتكيف وتقبل الواقع لأصحاب النفوس القوية والذوات الرضية والأرواح المرنة، فهذه صفية جمعت بين عيشتها مع زوجها بالحياة الزوجية بلا تكدير ولا تنكيد وبنفس الوقت أن تعيش بداخلها ألم وبغض مسيطرة عليه كما قالت: “وما كانَ أبغضَ إليَّ مِن رسولِ الله، قتلَ أبِي وزوجِي، فما زالَ يعتذرُ إليَّ، فقال: يا صفيةُ إنَّ أباكِ ألَّبَ عَلِيَّ العربَ وفعلَ وفعلَ يعتذرُ إِليها، قالت: حتَّى ذهبَ ذاكَ من نفسِي“.
الفائدة السابعة: تأويل الرؤيا قد يكون من غير أهل الإسلام، وهو علم شريف جاءت الإشارة إليه في القرآن والسنة، وثبت قديما في الأمم السابقة كما في قصة يوسف عليه السلام قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ (يوسف ٤٣)، وهنا زوج صفية السابق فسر وأول الرؤيا بزواج الرسول ﷺ منها، والناس في هذا باب التأويل منقسمون إلى طرفين ووسط، فمنهم المنكرون للرؤى جملةً وتفصيلاً، ومنهم المبالغون في الأوهام وأضغاث الأحلام، وكِلا الطرفين بعيد عن الحق والصواب، أما القسم الثالث انطلق من البراهين الشرعية والأدلة الواقعية والحقائق التاريخية في الباب بلا نقص ولا شطط.
الفائدة الثامنة: أن القمر هنا يقصد به البدر، ومن العجائب أن زوج صفية السابق عبر وأول القمر بالنبي عليه الصلاة والسلام، فعن البراء بن عازب لما سئِلَ: أكانَ وجْهُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: لا، بَلْ مِثْلَ القَمَرِ. (صحيح البخاري ٣٥٥٢). قال جابر بن سمرة رضي الله عنه عن وجه رسول الله: “بَلْ كانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكانَ مُسْتَدِيرًا” (صحيح مسلم ٢٣٤٤).
No Comments